فصل: تفسير الآيات (7- 11):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآية رقم (6):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)}
قوله: {إِذَا قُمْتُمْ} إذا أردتم القيام تعبيراً بالمسبب عن السبب كما في قوله: {فَإِذَا قَرَأْتَ القرءان فاستعذ بالله} [النحل: 98].
وقد اختلف أهل العلم في هذا الأمر عند إرادة القيام إلى الصلاة، فقالت طائفة: هو عام في كل قيام إليها سواء كان القائم متطهراً أو محدثاً، فإنه ينبغي له إذا قام إلى الصلاة أن يتوضأ، وهو مرويّ عن عليّ وعكرمة.
وقال ابن سيرين: كان الخلفاء يتوضئون لكل صلاة. وقالت طائفة أخرى: إن هذا الأمر خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو ضعيف، فإن الخطاب للمؤمنين والأمر لهم. وقالت طائفة: الأمر للندب طلباً للفضل.
وقال آخرون: إن الوضوء لكل صلاة كان فرضاً عليهم بهذه الآية. ثم نسخ في فتح مكة.
وقال جماعة: هذا الأمر خاص بمن كان محدثاً.
وقال آخرون: المراد إذا قمتم من النوم إلى الصلاة، فيعمّ الخطاب كل قائم من نوم.
وقد أخرج مسلم وأحمد وأهل السنن عن بريدة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة. فلما كان يوم الفتح، توضأ ومسح على خفيه، وصلى الصلوات بوضوء واحد، فقال له عمر: يا رسول الله، إنك فعلت شيئاً لم تكن تفعله، فقال: «عمداً فعلته يا عمر»، وهو مرويّ من طرق كثيرة بألفاظ متفقة في المعنى.
وأخرج البخاري وأحمد وأهل السنن عن عمرو بن عامر الأنصاري سمعت أنس بن مالك يقول: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة قال: قلت: فأنتم كيف كنتم تصنعون؟ قال: كنا نصلي الصلوات بوضوء واحد ما لم نحدث، فتقرر بما ذكر أن الوضوء لا يجب إلا على المحدث، وبه قال جمهور أهل العلم وهو الحق.
قوله: {فاغسلوا وُجُوهَكُمْ} الوجه في اللغة مأخوذ من المواجهة، وهو عضو مشتمل على أعضاء، وله طول وعرض، فحده في الطول: من مبتدأ سطح الجبهة إلى منتهى اللحيين، وفي العرض، من الأذن إلى الأذن، وقد ورد الدليل بتخليل اللحية. واختلف العلماء في غسل ما استرسل، والكلام في ذلك مبسوط في مواطنه.
وقد اختلف أهل العلم أيضاً: هل يعتبر في الغسل الدلك باليد أم يكفي إمرار الماء؟ والخلاف في ذلك معروف، والمرجع اللغة العربية، فإن ثبت فيها أن الدلك داخل في مسمى الغسل، كان معتبراً وإلا فلا. قال في شمس العلوم: غسل الشيء غسلاً إذا أجرى عليه الماء ودلكه انتهى. وأما المضمضة والإستنشاق، فإذا لم يكن لفظ الوجه يشمل باطن الفم والأنف فقد ثبت غسلها بالسنة الصحيحة، والخلاف في الوجوب وعدمه معروف.
وقد أوضحنا ما هو الحق في مؤلفاتنا.
قوله: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المرافق} {إلى} للغاية، وأما كون ما بعدها يدخل فيما قبلها فمحل خلاف.
وقد ذهب سيبويه وجماعة إلى أن ما بعدها إن كان من نوع ما قبلها دخل وإلا فلا. وقيل: إنها هنا بمعنى مع وذهب قوم إلى أنها تفيد الغاية مطلقاً، وأما الدخول وعدمه فأمر يدور مع الدليل: وقد ذهب الجمهور إلى أن المرافق تغسل، واستدلوا بما أخرجه الدارقطني والبيهقي من طريق القاسم بن محمد بن عبد الله ابن محمد بن عقيل عن جدّه عن جابر بن عبد الله، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه. ولكن القاسم هذا متروك، وجدّه ضعيف.
قوله: {وامسحوا بِرُؤُوسِكُمْ} قيل: الباء زائدة، والمعنى: امسحوا رءوسكم، وذلك يقتضي تعميم المسح لجميع الرأس. وقيل: هي للتبعيض، وذلك يقتضي أنه يجزئ مسح بعضه. واستدل القائلون بالتعميم بقوله تعالى في التيمم: {فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ} ولا يجزئ مسح بعض الوجه اتفاقاً. وقيل إنها للإلصاق، أي ألصقوا أيديكم برءوسكم، وعلى كل حال فقد ورد في السنة المطهرة ما يفيد أنه يكفي مسح بعض الرأس كما أوضحناه في مؤلفاتنا، فكان هذا دليلاً على المطلوب غير محتمل كاحتمال الآية على فرض أنها محتملة، ولا شك أن من أمر غيره بأن يمسح رأسه كان ممتثلاً بفعل ما يصدق عليه مسمى المسح، وليس في لغة العرب ما يقتضي أنه لابد في مثل هذا الفعل من مسح جميع الرأس، وهكذا سائر الأفعال المتعدية نحو: اضرب زيداً أو اطعنه أو ارجمه، فإنه يوجد المعنى العربي بوقوع الضرب أو الطعن أو الرجم على عضو من أعضائه، ولا يقول قائل من أهل اللغة أو من هو عالم بها: إنه لا يكون ضارباً إلا بإيقاع الضرب على كل جزء من أجزاء زيد، وكذلك الطعن والرجم وسائر الأفعال، فاعرف هذا حتى يتبين لك ما هو الصواب من الأقوال في مسح الرأس. فإن قلت: يلزم مثل هذا في غسل الوجه واليدين والرجلين. قلت: ملتزم لولا البيان من السنة في الوجه، والتحديد بالغاية في اليدين والرجلين بخلاف الرأس، فإنه ورد في السنة مسح الكل ومسح البعض.
قوله: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الكعبين} قرأ نافع بنصب الأرجل، وهي قراءة الحسن البصري والأعمش، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة بالجرّ. وقراءة النصب تدل على أنه يجب غسل الرجلين، لأنها معطوفة على الوجه، وإلى هنا ذهب جمهور العلماء. وقراءة الجرّ تدل على أنه يجوز الاقتصار على مسح الرجلين، لأنها معطوفة على الرأس، وإليه ذهب ابن جرير الطبري، وهو مرويّ عن ابن عباس. قال ابن العربي: اتفقت الأمة على وجوب غسلهما، وما علمت من ردّ ذلك إلا الطبري من فقهاء المسلمين، والرافضة من غيرهم، وتعلق الطبري بقراءة الجرّ قال القرطبي: قد روى عن ابن عباس أنه قال: الوضوء غسلتان ومسحتان، قال: وكان عكرمة يمسح رجليه وقال: ليس في الرجلين غسل، إنما نزل فيهما المسح.
وقال عامر الشعبي: نزل جبريل بالمسح. قال: وقال قتادة: افترض الله مسحتين وغسلتين. قال: وذهب ابن جرير الطبري إلى أن فرضهما التخيير بين الغسل والمسح، وجعل القراءتين كالروايتين، وقواه النحاس، ولكنه قد ثبت في السنة المطهرة بالأحاديث الصحيحة من فعله صلى الله عليه وسلم وقوله غسل الرجلين فقط، وثبت عنه أنه قال: «ويل للأعقاب من النار»، وهو في الصحيحين وغيرهما، فأفاد وجوب غسل الرجلين، وأنه لا يجزئ مسحهما، لأن شأن المسح أن يصيب ما أصاب ويخطئ ما أخطأ، فلو كان مجزئاً لما قال: «ويل للأعقاب من النار»، وقد ثبت عنه أنه قال بعد أن توضأ وغسل رجليه: «هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به» وقد ثبت في صحيح مسلم وغيره: أن رجلاً توضأ فترك على قدمه مثل موضع الظفر، فقال له: «ارجع فأحسن وضوءك» وأما المسح على الخفين فهو ثابت بالأحاديث المتواترة.
وقوله: {إِلَى الكعبين} الكلام فيه كالكلام في قوله: {إِلَى المرافق} وقد قيل في وجه جمع المرافق وتثنية الكعاب: إنه لما كان في كل رجل كعبان ولم يكن في كل يد إلا مرفق واحد ثنيت الكعاب تنبيهاً على أن لكل رجل كعبين، بخلاف المرافق فإنها جمعت؛ لأنه لما كان في كل يد مرفق واحد لم يتوهم وجود غيره، ذكر معنى هذا ابن عطية.
وقال الكواشي: ثنى الكعبين وجمع المرافق لنفي توهم أن في كل واحدة أمن الرجلين كعبين، وإنما في كل واحدة كعب واحد، له طرفان من جانبي الرجل، بخلاف المرفق فهي أبعد عن الوهم انتهى.
وبقي من فرائض الوضوء النية والتسمية، ولم يذكرا في هذه الآية، بل وردت بهما السنة وقيل: إن في هذه الآية ما يدلّ على النية، لأنه لما قال: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة فاغسلوا وُجُوهَكُم} كان تقدير الكلام: فاغسلوا وجوهكم لها، وذلك هو النية المعتبرة.
قوله: {وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فاطهروا} أي فاغتسلوا بالماء.
وقد ذهب عمر بن الخطاب وابن مسعود إلى أن الجنب لا يتيمم ألبتة، بل يدع الصلاة حتى يجد الماء استدلالاً بهذه الآية، وذهب الجمهور إلى وجوب التيمم للجنابة مع عدم الماء، وهذه الآية هي للواجد، على أن التطهر هو أعمّ من الحاصل بالماء أو بما هو عوض عنه مع عدمه، وهو التراب.
وقد صحّ عن عمر وابن مسعود الرجوع إلى ما قاله الجمهور للأحاديث الصحيحة الواردة في تيمم الجنب مع عدم الماء.
وقد تقدّم تفسير الجنب في النساء.
قوله: {وَإِنْ كُنتُم مرضى أَوْ على سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مّنْكُمْ مّن الغائط}
[النساء: 43] وقد تقدّم تفسير هذا في سورة النساء مستوفى، وكذلك تقدّم الكلام على ملامسة النساء، وعلى التيمم وعلى الصعيد، و{من} في قوله: {مِنْهُ} لابتداء الغاية، وقيل: للتبعيض. قيل: ووجه تكرير هذا هنا لاستيفاء الكلام في أنواع الطهارة {مَا يُرِيدُ الله لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مّنْ حَرَجٍ} أي ما يريد بأمركم بالطهارة بالماء أو بالتراب التضييق عليكم في الدين، ومنه قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدين مِنْ حَرَج} [الحج: 78] ثم قال: {ولكن يُرِيدُ لِيُطَهّرَكُمْ} من الذنوب، وقيل: من الحدث الأصغر والأكبر، {وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} أي بالترخيص لكم في التيمم عند عدم الماء، أو بما شرعه لكم من الشرائع التي عرّضكم بها للثواب، {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} نعمته عليكم، فتستحقون بالشكر ثواب الشاكرين.
وقد أخرج مالك والشافعي وعبد بن حميد وابن المنذر عن زيد بن أسلم، في قوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة} قال: قمتم من المضاجع، يعني: النوم.
وأخرج ابن جرير عن السدّي مثله.
وأخرج ابن جرير أيضاً عنه يقول: إذا قمتم وأنتم على غير طهر.
وأخرج ابن أبي شيبة عن الحسن، في قوله: {فاغسلوا وُجُوهَكُمْ} قال: ذلك الغسل الدلك.
وأخرج سعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن جرير عن أنس أنه قيل له: إن الحجاج خطبنا فقال: اغسلوا وجوهكم وأيديكم وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم، وأنه ليس شيء من ابن آدم أقرب إلى الخبث من قدميه فاغسلوا بطونهما، وظهورهما، وعراقيبهما. قال أنس: صدق الله وكذب الحجاج. قال الله: {وامسحوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} وكان أنس إذا مسح قدميه بلهما.
وأخرج سعيد بن منصور عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: اجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على غسل القدمين.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر، عن مجاهد في قوله: {مِنْ حَرَجٍ} قال: من ضيق.
وأخرج عبد بن حميد، وأبو الشيخ عن سعيد بن جبير في قوله: {وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} قال: تمام النعمة دخول الجنة، لم يتمّ نعمته على عبد لم يدخل الجنة.

.تفسير الآيات (7- 11):

{وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)}
{نِعْمَةَ الله} قيل: هي الإسلام. والميثاق: العهد. قيل: المراد به هنا: ما أخذه على بني آدم كما قال: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِى ءادَمَ} الآية [الأعراف: 172]. قال مجاهد وغيره: نحن وإن لم نذكره فقد أخبرنا الله به. وقيل: هو خطاب لليهود، والعهد: ما أخذه عليهم في التوراة.
وذهب جمهور المفسرين من السلف ومن بعدهم، إلى أنه العهد الذي أخذه النبي صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة عليهم، وهو السمع والطاعة في المنشط والمكره، وأضافه تعالى إلى نفسه؛ لأنه عن أمره وإذنه، كما قال: {إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله} [الفتح: 10]، وبيعة العقبة مذكورة في كتب السيرة، وهذا متصل بقوله: {أَوْفُواْ بالعقود} [المائدة: 1]. قوله: {إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} أي وقت قولكم هذا القول، وهذا متعلق بواثقكم، أو بمحذوف وقع حالاً أي كائناً هذا الوقت. و{ذَاتُ الصدور}: ما تخفيه الصدور لكونها مختصة بها لا يعلمها أحد. ولهذا أطلق عليها ذات التي بمعنى الصاحب، وإذا كان سبحانه عالماً بها، فكيف بما كان ظاهراً جلياً.
قوله: {ياأيها الذين ءامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ} قد تقدّم تفسيرها في النساء، وصيغة المبالغة في {قَوَّامِينَ} تفيد أنهم مأمورون بأن يقوموا بها أتمّ قيام {لِلَّهِ} أي لأجله، تعظيماً لأمره، وطمعاً في ثوابه. والقسط: العدل.
وقد تقدّم الكلام على قوله: {يَجْرِمَنَّكُمْ} مستوفى، أي لا يحملنكم بغض قوم على ترك العدل، وكتم الشهادة {اعدلوا هُوَ} أي العدل المدلول عليه بقوله: {اعدلوا} {أَقْرَبُ للتقوى} التي أمرتم بها غير مرة، أي أقرب لأن تتقوا الله، أو لأن تتقوا النار. قوله: {لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} هذه الجملة في محل نصب على أنها المفعول الثاني لقوله: {وَعْدُ} على معنى وعدهم أن لهم مغفرة، أو وعدهم مغفرة فوقعت الجملة موقع المفرد فأغنت عنه، ومثله قول الشاعر:
وجدنا الصالحين لهم جزاء ** وجنات وعيناً سلسبيلاً

قوله: {أصحاب الجحيم} أي: ملابسوها. قوله: {إِذْ هَمَّ قَوْمٌ} ظرف لقوله: {اذكروا} أو للنعمة، أو لمحذوف وقع حالاً منها {أَن يَبْسُطُواْ} أي بأن يبسطوا. وقوله: {فَكَفَّ} معطوف على قوله: {همّ} وسيأتي بيان سبب نزول هذه الآية، وبه يتضح المعنى.
وقد أخرج ابن جرير، والطبراني في الكبير، عن ابن عباس في قوله: {إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} يعني حين بعث الله النبي صلى الله عليه وسلم، وأنزل عليه الكتاب قالوا آمناً بالنبيّ والكتاب، وأقررنا بما في التوراة، فذكرهم الله ميثاقه الذي أقرّوا به على أنفسهم وأمرهم بالوفاء به.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن مجاهد قال: النعم: الآلاء، وميثاقه الذي واثقهم به، قال: الذي واثق به بني آدم، في ظهر آدم عليه السلام.
وأخرج ابن جرير عن عبد الله بن كثير، في قوله: {ياأيها الذين ءامَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّه شُهَدَآء بالقسط} الآية. قال: نزلت في يهود خيبر، ذهب إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعينهم في دية، فهموا أن يقتلوه، فذلك قوله: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَانُ قَوْمٍ عَلَى أَن لا تَعْدِلُواْ} الآية.
وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والبيهقي في الدلائل، عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم، نزل منزلاً فتفرق الناس في العضاه يستظلون تحتها، فعلق النبي سلاحه بشجرة، فجاء أعرابي إلى سيفه فأخذه فسله، ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من يمنعك مني؟ قال: «الله»، قال الأعرابي: مرتين أو ثلاثاً من يمنعك مني؟ والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «الله»، فشام الأعرابي السيف، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه فأخبرهم بصنيع الأعرابي وهو جالس إلى جنبه لم يعاقبه. قال معمر: وكان قتادة يذكر نحو هذا. ويذكر أن قوماً من العرب أرادوا أن يفتكوا بالنبي، فأرسلوا هذا الأعرابي، ويتأوّل: {اذكروا الله عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ} الآية.
وأخرج الحاكم وصححه عنه بنحوه، وذكر أن اسم الرجل غورث بن الحارث، وأنه لما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الله» سقط السيف من يده، فأخذه النبي وقال: «من يمنعك مني؟» قال: كن خير آخذ، قال: فشهد أن لا إله إلا الله.
وأخرجه أيضاً ابن إسحاق وأبو نعيم في الدلائل عنه.
وأخرج أبو نعيم في الدلائل، عن ابن عباس: أن بني النضير هموا أن يطرحوا حجراً على النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه، فجاء جبريل فأخبره بما هموا، فقام ومن معه، فنزلت: {يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ} الآية، وروى نحو هذا من طرق عن غيره، وقصة الأعرابي وهو غورث المذكور ثابتة في الصحيح.